الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{حم، تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون، بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون، وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون} قوله تعالى}حم، تنزيل من الرحمن الرحيم}قال الزجاج}تنزيل}رفع بالابتداء وخبره }كتاب فصلت آياته}وهذا قول البصريين. وقال الفراء: يجوز أن يكون رفعه على إضمار هذا. ويجوز أن يقال}كتاب}بدل من قوله}تنزيل}. وقيل: نعت لقوله}تنزيل}. وقيل}حم}أي هذه }حم}كما تقول باب كذا، أي هو باب كذا فـ }حم}خبر ابتداء مضمر أي هو}حم}، وقوله}تنزيل}مبتدأ آخر، وقوله}كتاب}خبره. }فصلت آياته}أي بينت وفسرت. قال قتادة: ببيان حلاله من حرامه، وطاعته من معصيته. الحسن: بالوعد والوعيد. سفيان: بالثواب والعقاب. وقرئ }فصلت}أي فرقت بين الحق والباطل، أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها؛ من قولك فصل أي تباعد من البلد. }قرآنا عربيا}في نصبه وجوه؛ قال الأخفش: هو نصب على المدح. وقيل: على إضمار فعل؛ أي اذكر }قرآنا عربيا}. وقيل: على إعادة الفعل؛ أي فصلنا }قرآنا عربيا}. وقيل: على الحال أي }فصلت آياته}في حال كونه }قرآنا عربيا}. وقيل: لما شغل }فصلت}بالآيات حتى صارت بمنزلة الفاعل انتصب }قرآنا}لوقوع البيان عليه. وقيل: على القطع. }لقوم يعلمون}قال الضحاك: أي إن القرآن منزل من عند الله. وقال مجاهد: أي يعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل. وقيل: يعلمون العربية فيعجزون عن مثله ولو كان غير عربي لما علموه. قلت: هذا أصح، والسورة نزلت تقريعا وتوبيخا لقريش في إعجاز القرآن. قوله تعالى}بشيرا ونذيرا}حالان من الآيات والعامل فيه }فصلت}. وقيل: هما نعتان للقرآن }بشيرا}لأولياء الله }نذيرا}لأعدائه. وقرئ }بشير ونذير}صفة للكتاب. أو خبر مبتدأ محذوف }فأعرض أكثرهم}يعني أهل مكة }فهم لا يسمعون}سماعا ينتفعون به. قوله تعالى}وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه}الأكنة جمع كنان وهو الغطاء. وقد مضى في }البقرة}. قال مجاهد: الكنان للقلب كالجنة للنبل. }وفي آذاننا وقر}أي صمم؛ فكلامك لا يدخل أسماعنا، وقلوبنا مستورة من فهمه. }ومن بيننا وبينك حجاب}أي خلاف في الدين، لأنهم يعبدون الأصنام وهو يعبد الله عز وجل. قال معناه الفراء وغيره. وقيل: ستر مانع عن الإجابة. وقيل: إن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا وقال: يا محمد بيننا وبينك حجاب. استهزاء منه. حكاه النقاش وذكره القشيري. فالحجاب هنا الثوب. }فاعمل إننا عاملون}أي اعمل في هلاكنا فإنا عاملون في هلاكك؛ قاله الكلبي. وقال مقاتل: اعمل لإلهك الذي أرسلك، فإنا نعمل لآلهتنا التي نعبدها. وقيل: أعمل بما يقتضيه دينك، فإنا عاملون بما يقتضيه ديننا. ويحتمل خامسا: فاعمل لآخرتك فإنا نعمل لدنيانا؛ ذكره الماوردي. {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين، الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} قوله تعالى}قل إنما أنا بشر مثلكم}أي لست بملك بل أنا من بني آدم. قال الحسن: علمه الله تعالى التواضع. }يوحى إلي}أي من السماء على أيدي الملائكة }أنما إلهكم إله واحد}فآمنوا به }فاستقيموا إليه}أي وجهوا وجوهكم بالدعاء له والمسألة إليه، كما يقول الرجل: استقم إلى منزلك؛ أي لا تعرج على شيء غير القصد إلى منزلك. }واستغفروه}أي من شرككم. }وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة}قال ابن عباس: الذين لا يشهدون }أن لا إله إلا الله}وهي زكاة الأنفس. وقال قتادة: لا يقرون بالزكاة أنها واجبة. وقال الضحاك ومقاتل: لا يتصدقون ولا ينفقون في الطاعة. قرعهم بالشح الذي يأنف منه الفضلاء، وفيه دلالة على أن الكافر يعذب بكفر مع منع وجوب الزكاة عليه. وقال الفراء وغيره: كان المشركون ينفقون النفقات، ويسقون الحجيج ويطعمونهم، فحرموا ذلك على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فنزلت فيهم هذه الآية. }وهم بالآخرة هم كافرون}فلهذا لا ينفقون في الطاعة ولا يستقيمون ولا يستغفرون. الزمخشري: فإن قلت لم خص من بين أوصاف المشركين منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة؟ قلت: لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله، وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته وصدق نيته ونصوع طويته ألا ترى إلى قوله عز وجل قوله تعالى}إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون}قال ابن عباس: غير مقطوع؛ مأخوذ من مننت الحبل إذا قطعته؛ ومنه قول ذي الإصبع: وقال آخر: يعني بالمنين الغبار المنقطع الضعيف. وعن ابن عباس أيضا ومقاتل: غير منقوص. ومنه المنون؛ لأنها تنقص منه الإنسان أي قوته؛ وقال قطرب؛ وأنشد قول زهير: قال الجوهري: والمن القطع، ويقال النقص؛ ومنه قوله تعالى}لهم أجر غير ممنون}. وقال لبيد: وقال مجاهد}غير ممنون}غير محسوب. وقيل}غير ممنون}عليهم به. قال السدي: نزلت في الزمني والمرضى والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون فيه. {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين، فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم} قوله تعالى}قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض}}أئنكم}بهمزتين الثانية بين بين و}أائنكم}بألف بين همزتين وهو استفهام معناه التوبيخ. أمره بتوبيخهم والتعجب من فعلهم، أي لم تكفرون بالله وهو خالق السموات والأرض؟ ! }في يومين}الأحد والاثنين }وتجعلون له أندادا}أي أضدادا وشركاء }ذلك رب العالمين}. }وجعل فيها}أي في الأرض }رواسي من فوقها}يعني الجبال. وقال وهب: لما خلق الله الأرض مادت على وجه الماء؛ فقال لجبريل ثبتها يا جبريل. فنزل فأمسكها فغلبته الرياح، قال: يا رب أنت أعلم لقد غلبت فيها فثبتها بالجبال وأرساها }وبارك فيها}بما خلق فيها من المنافع. قال السدي: أنبت فيها شجرها. }وقدر فيها أقواتها}قال السدي والحسن: أرزاق أهلها ومصالحهم. وقال قتادة ومجاهد: خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها في يوم الثلاثاء والأربعاء. وقال عكرمة والضحاك: معنى }قدر فيها أقواتها}أي أرزاق أهلها وما يصلح لمعايشهم من التجارات والأشجار والمنافع في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة والأسفار من بلد إلى بلد. قال عكرمة: حتى إنه في بعض البلاد ليتبايعون الذهب بالملح مثلا بمثل. وقال مجاهد والضحاك: السابري من سابور، والطيالسة من الري، والحبر اليمانية من اليمن. }في أربعة أيام}يعني في تتمة أربعة أيام. ومثاله قول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما؛ أي في تتمة خمسة عشر يوما. قال معناه ابن الأنباري وغيره. }سواء للسائلين}قال الحسن: المعنى في أربعة أيام مستوية تامة. الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: وقدر فيها أقواتها سواء للمحتاجين. واختاره الطبري. وقرأ الحسن، البصري ويعقوب الحضرمي }سواء للسائلين}بالجر وعن ابن القعقاع }سواء}بالرفع؛ فالنصب على المصدر و}سواء}بمعنى استواء أي استوت استواء. وقيل: على الحال والقطع؛ والجر على النعت لأيام أو لأربعة أي }في أربعة أيام}مستوية تامة. والرفع على الابتداء والخبر }للسائلين}أو على تقدير هذه }سواء للسائلين}. وقال أهل المعاني: معنى }سواء للسائلين}ولغير السائلين؛ أي خلق الأرض وما فيها لمن سأل ولمن لم يسأل، ويعطي من سأل ومن لا يسأل. قوله تعالى}ثم استوى إلى السماء وهي دخان}أي عمد إلى خلقها وقصد لتسويتها. والاستواء من صفة الأفعال على أكثر الأقوال؛ يدل عليه قوله تعالى يعني ظهر ذلك فيه. وقال أكثر أهل العلم: بل خلق الله فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد تعالى: قال أبو نصر السكسكي: فنطق من الأرض موضع الكعبة، ونطق من السماء ما بحيالها، فوضع الله تعالى فيه حرمه. وقال}طائعين}ولم يقل طائعتين على اللفظ ولا طائعات على المعنى؛ لأنهما سموات وأرضون، لأنه أخبر عنهما وعمن فيهما، وقيل: لما وصفهن بالقول والإجابة وذلك من صفات من يعقل أجراهما في الكناية مجرى من يعقل، ومثله قوله تعالى}فقضاهن سبع سماوات في يومين}أي أكملهن وفرغ منهن. وقيل. أحكمهن كما قال: {في يومين}سوى الأربعة الأيام التي خلق فيها الأرض، فوقع خلق السموات والأرض في ستة أيام؛ كما قال تعالى قوله تعالى}وزينا السماء الدنيا بمصابيح}أي بكواكب تضيء وقيل: إن في كل سماء كواكب تضيء. وقيل: بل الكواكب مختصة بالسماء الدنيا. }وحفظا}أي وحفظناها حفظا؛ أي من الشياطين الذين يسترقون السمع. وهذا الحفظ بالكواكب التي ترجم بها الشياطين على ما تقدم في }الحجر}بيانه. وظاهر هذه الآية يدل على أن الأرض خلقت قبل السماء. وقال في آية أخرى {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون، فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون، فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون} قوله تعالى}فإن أعرضوا}يعني كفار قريش عما تدعوهم إليه يا محمد من الإيمان. }فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود}أي خوفتكم هلاكا مثل هلاك عاد وثمود. }إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم}يعني من أرسل إليهم وإلى من قبلهم }ألا تعبدوا إلا الله}موضع }أن}نصب بإسقاط الخافض أي بـ }ألا تعبدوا}}قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة}بدل الرسل }فإنا بما أرسلتم به كافرون}من الإنذار والتبشير. قيل: هذا استهزاء منهم. وقيل: إقرار منهم بإرسالهم ثم بعده جحود وعناد. قوله تعالى}فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق}استكبروا على عباد الله هود ومن آمن معه }وقالوا من أشد منا قوة}اغتروا بأجسامهم حين تهددهم بالعذاب، وقالوا: نحن نقدر على دفع العذاب عن أنفسنا بفضل قوتنا. وذلك أنهم كانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم. وقد مضى في }الأعراف}عن ابن عباس: أن أطولهم كان مائة ذراع وأقصرهم كان ستين ذراعا. فقال الله تعالى ردا عليهم}أولم يروا أن الذي خلقهم هو أشد منهم قوة}وقدرة، وإنما يقدر العبد بإقدار الله؛ فالله أقدر إذا. }وكانوا بآياتنا يجحدون}أي بمعجزاتنا يكفرون. قوله تعالى}فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا}هذا تفسير الصاعقة التي أرسلها عليهم، أي ريحا باردة شديدة البرد وشديدة الصوت والهبوب. ويقال: أصلها صرر من الصر وهو البرد فأبدلوا مكان الراء الوسطى فاء الفعل؛ كقولهم كبكبوا أصله كببوا، وتجفجف الثوب أصله تجفف. أبو عبيدة: معنى صرصر: شديدة عاصفة. عكرمة وسعيد بن جبير: شديد البرد. وأنشد قطرب قول الحطيئة: استودوا: إذا سئلوا الدية. مجاهد: الشديدة السموم. وروى معمر عن قتادة قال: باردة. وقاله عطاء؛ لأن }صرصرا}مأخوذ من صر والصر في كلام العرب البرد كما قال: وقال السدي: الشديدة الصوت. ومنه صر القلم والباب يصر صريرا أي صوت. ويقال: درهم صري وصري للذي له صوت إذا نقد. قال ابن السكيت: صرصر يجوز أن يكون من الصر وهو البرد، ويجوز أن يكون من صرير الباب، ومن الصرة وهي الصيحة. ومنه قال الضحاك وغيره: أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، ودرت الرياح عليهم في غير مطر، وخرج منهم قوم إلى مكة يستسقون بها للعباد، وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو جهد طلبوا إلى الله تعالى الفرج منه، وكانت طلبتهم ذلك من الله تعالى عند بيته الحرام مكة مسلمهم وكافرهم، فيجتمع بمكة ناس كثير شتي، مختلفة أديانهم، وكلهم معظم لمكة، عارف حرمتها ومكانها من الله تعالى. وقال جابر بن عبدالله والتيمي: إذا أراد الله بقوم خيرا أرسل عليهم المطر وحبس عنهم كثرة الرياح، وإذا أراد الله بقوم شرا حبس عنهم المطر وسلط عليهم كثرة الرياح. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو }نحسات}بإسكان الحاء على أنه جمع نحس الذي هو مصدر وصف به. الباقون}نحسات}بكسر الحاء أي ذوات نحس. ومما يدل على أن النحس مصدر قوله ومنه قيل: أيام نحسات. }لنذيقهم}أي لكي نذيقهم }عذاب الخزي في الحياة الدنيا}أي العذاب بالريح العقيم. }ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون}أي أعظم وأشد. {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون، ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون} قوله تعالى}وأما ثمود فهديناهم}أي بينا لهم الهدى والضلال؛ عن ابن عباس وغيره. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وغيرهما }وأما ثمود}بالنصب وقد مضى الكلام فيه في }الأعراف}. }فاستحبوا العمى على الهدى}أي اختاروا الكفر على الإيمان. وقال أبو العالية: اختاروا العمى على البيان. السدي: اختاروا المعصية على الطاعة. }فأخذتهم صاعقة العذاب الهون}}الهون}بالضم الهوان. وهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر أخو كنانة وأسد. وأهانه: استخف به. والاسم الهوان والمهانة. وأضيف الصاعقة إلى العذاب، لأن الصاعقة اسم للمبيد المهلك، فكأنه قال مهلك العذاب؛ أي العذاب المهلك. والهون وإن كان مصدرا فمعناه الإهانة والإهانة عذاب، فجاز أن يجعل أحدهما وصفا للآخر؛ فكأنه قال: صاعقة الهون. وهو كقولك: عندي علم اليقين، وعندي العلم اليقين. ويجوز أن يكون الهون اسما مثل الدون؛ يقال: عذاب هون أي مهين؛ كما قال {ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون، حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون} قوله تعالى}ويوم يحشر أعداء الله إلى النار}قرأ نافع }نحشر}بالنون }أعداء}بالنصب. الباقون }يحشر}بياء مضمومة }أعداء}بالرفع ومعناهما بين. وأعداء الله: الذين كذبوا رسله وخالفوا أمره. }فهم يوزعون}يساقون ويدفعون إلى جهنم. قال قتادة والسدي: يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا؛ قال أبو الأحوص: فإذا تكاملت العدة بدئ بالأكابر فالأكابر جرما. وقد مضى في }النمل}الكلام في قوله تعالى}حتى إذا ما جاؤوها}}ما}زائدة }شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون}الجلود يعني بها الجلود أعيانها في قول أكثر المفسرين. وقال السدي وعبيدالله بن أبي جعفر والفراء: أراد بالجلود الفروج؛ وأنشد بعض الأدباء لعامر بن جوية: أوسالم من قد تثـ ـنى جلده وابيض رأسه وقال: جلده كناية عن فرجه. }وقالوا}يعني الكفار }لجلودهم لم شهدتم علينا}وإنما كنا نجادل عنكم }قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء}لما خاطبت وخوطبت أجريت مجرى من يعقل. }وهو خلقكم أول مرة}أي ركب الحياة فيكم بعد أن كنتم نطفا، فمن قدر عليه قدر على أن ينطق الجلود وغيرها من الأعضاء. وقيل}وهو خلقكم أول مرة}ابتداء كلام من الله. }وإليه ترجعون} {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون، وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين، فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين، وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين} قوله تعالى}وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم}يجوز أن يكون هذا من قول الجوارح لهم: ويجوز أن يكون من قول الله عز وجل أو الملائكة. هل يستطيع جحود ذنب واحد رجل جوارحه عليه شهود
والمرء يسأل عن سنيه فيشتهي تقليلها وعن الممات يحيد فإن تك بالأمس اقترفت إساءة فثن بإحسان وأنت حميد
ولا ترج فعل الخير منك إلى غد لعل غدا يأتي وأنت فقيد قوله تعالى}وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم}أي أهلككم فأوردكم النار. قال قتادة: الظن هنا بمعنى العلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: قوله تعالى}فإن يصبروا فالنار مثوى لهم}أي فإن يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار فالنار مثوى لهم. نظيره أي مثلك من قبل الصلح والمراجعة إذا سئل. قال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة. تقول: عاتبته معاتبة، وبينهم أعتوبة يتعاتبون بها. يقال: إذا تعاتبوا أصلح ما بينهم العتاب. وأعتبني فلان: إذا عاد إلى مسرتي راجعا عن الإساءة، والاسم منه العتبى، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب. واستعتب وأعتب بمعنى، واستعتب أيضا طلب أن يعتب؛ تقول: استعتبته فأعتبني أي استرضيته فأرضاني. فمعنى }وإن يستعتبوا}أي طلبوا الرضا لم ينفعهم ذلك بل لا بد لهم من النار. وفي التفاسير: وإن يستقيلوا ربهم فما هم من المقالين. وقرأ عبيد بن عمير وأبو العالية }وإن يستعتبوا}بفتح التاء الثانية وضم الياء على الفعل المجهول }فما هم من المعتبين}بكسر التاء أي إن أقالهم الله وردهم إلى الدنيا لم يعملوا بطاعته لما سبق لهم في علم الله من الشقاء، قال الله تعالى قوله تعالى}وقيضنا لهم قرناء}قال النقاش: أي هيأنا لهم شياطين. وقيل: سلطنا عليهم قرناء يزينون عندهم المعاصي، وهؤلاء القرناء من الجن والشياطين ومن الإنس أيضا؛ أي سببنا لهم قرناء؛ يقال: قيض الله فلانا لفلان أي جاءه به وأتاحه له، ومنه قوله تعالى}وقيضنا لهم قرناء}. القشيري: ويقال قيض الله لي رزقا أي أتاحه كما كنت أطلبه، والتقييض الإبدال ومنه المقايضة، قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع، وهما قيضان كما تقول بيعان. }فزينوا لهم ما بين أيديهم}من أمر الدنيا فحسنوه لهم حتى آثروه على الآخرة }وما خلفهم}حسنوا لهم ما بعد مماتهم ودعوهم إلى التكذيب بأمور الآخرة؛ عن مجاهد. وقيل: المعنى }قيضنا لهم قرناء}في النار }فزينوا لهم}أعمالهم في الدنيا؛ والمعنى قدرنا عليهم أن ذلك سيكون وحكمنا به عليهم. وقيل: المعنى أحوجناهم إلى الأقران؛ أي أحوجنا الفقير إلى الغني لينال منه، والغني إلى الفقير ليستعين به فزين بعضهم لبعض المعاصي. وليس قوله}وما خلفهم}عطفا على }ما بين أيديهم}بل المعنى وأنسوهم ما خلفهم ففيه هذا الإضمار. قال ابن عباس}ما بين أيديهم}تكذيبهم بأمور الآخرة }وما خلفهم}التسويف والترغيب في الدنيا. الزجاج}ما بين أيديهم}ما عملوه }وما خلفهم}ما عزموا على أن يعملوه. وقد تقدم قول مجاهد. وقيل: المعنى لهم مثل ما تقدم من المعاصي }وما خلفهم}ما يعمل بعدهم. }وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس}أي وجب عليهم من العذاب ما وجب على الأمم الذين من قبلهم الذين كفروا ككفرهم. وقيل}في}بمعنى مع؛ فالمعنى هم داخلون مع الأمم الكافرة قبلهم فيما دخلوا فيه. وقيل}في أمم}في جملة أمم، ومثله قول الشاعر: يريد فأنت في جملة آخرين لست في ذلك بأوحد. ومحل }في أمم}النصب على الحال من الضمير في }عليهم}أي حق عليهم القول كائنين في جملة أمم. }إنهم كانوا خاسرين}أعمالهم في الدنيا وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة. {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون، فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون، ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون، وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين} قوله تعالى}وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن}لما أخبر تعالى عن كفر قوم هود وصالح وغيرهم أخبر عن مشركي قريش وأنهم كذبوا القرآن فقالوا}لا تسمعوا}. وقيل: معنى }لا تسمعوا}لا تطيعوا؛ يقال: سمعت لك أي أطعتك. }والغوا فيه}قال ابن عباس: قال أبو جهل إذا قرأ محمد فصيحوا في وجهه حتى لا يدري ما يقول. وقيل: إنهم فعلوا ذلك لما أعجزهم القرآن. وقال مجاهد: المعنى }والغوا فيه}بالمكاء والتصفيق والتخليط في المنطق حتى يصير لغوا. وقال الضحاك: أكثروا الكلام ليختلط عليه ما يقول. وقال أبو العالية وابن عباس أيضا: قعوا فيه. وعيبوه. }لعلكم تغلبون}محمدا على قراءته فلا يظهر ولا يستميل القلوب. وقرأ عيسى بن عمر والجحدري وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وبكر بن حبيب السهمي }والغوا}بضم الغين وهي لغة من لغا يلغو. وقراءة الجماعة من لغي يلغى. قال الهروي: وقوله}والغوا فيه}قيل: عارضوه بكلام لا يفهم. يقال: لغوت ألغو وألغى، ولغي يلغى ثلاث لغات. وقد مضى معنى اللغو في }البقرة}وهو ما لا يعلم له حقيقة ولا تحصيل. قوله تعالى}فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا}قد تقدم أن الذوق يكون محسوسا، ومعنى العذاب الشديد: ما يتوالى فلا ينقطع. وقيل: هو العذاب في جميع أجزائهم. }ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون}أي ولنجزينهم في الآخرة جزاء قبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا. وأسوأ الأعمال الشرك. }ذلك جزاء أعداء الله النار}أي ذلك العذاب الشديد، ثم بينه بقوله }النار}وقرأ ابن عباس }ذلك جزاء أعداء الله النار دار الخلد}فترجم بالدار عن النار وهو مجاز الآية. و}ذلك}ابتداء و}جزاء}الخبر و}النار}بدل من }جزاء}أوخبر مبتدأ مضمر، والجملة في موضع بيان للجملة الأولى. قوله تعالى}وقال الذين كفروا}يعني في النار فذكره بلفظ الماضي والمراد المستقبل }ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس}يعني إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه. عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما؛ ويشهد لهذا القول الحديث المرفوع: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون، نزلا من غفور رحيم} قوله تعالى}إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}قال عطاء عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ وذلك أن المشركين قالوا ربنا الله والملائكة بناته وهؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ فلم يستقيموا. وقال أبو بكر: ربنا الله وحده لا شريك له ومحمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله؛ فاستقام. قلت: وهذه الأقوال وإن تداخلت فتلخيصها: اعتدلوا على طاعة الله عقدا وقولا وفعلا، وداموا على ذلك. قوله تعالى}تتنزل عليهم الملائكة}قال ابن زيد ومجاهد: عند الموت. وقال مقاتل وقتادة: إذا قاموا من قبورهم للبعث. وقال ابن عباس: هي بشرى تكون لهم من الملائكة في الآخرة. وقال وكيع وابن زيد: البشرى في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث. }ألا تخافوا}أي بـ }ألا تخافوا}فحذف الجار. وقال مجاهد: لا تخافوا الموت. وقال عطاء بن أبي رباح: لا تخافوا رد ثوابكم فإنه مقبول، وقال عكرمة ولا تخافوا أمامكم، ولا تحزنوا على ذنوبكم. }ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون}على أولادكم فإن الله خليفتكم عليهم. وقال عطاء بن أبي رباح: لا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم. وقال عكرمة: لا تحزنوا على ذنوبكم. قوله تعالى}نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة}أي تقول لهم الملائكة الذين تتنزل عليهم بالبشارة }نحن أولياؤكم}قال مجاهد: أي نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قالوا لا نفارقكم حتى ندخلكم الجنة. وقال السدي: أي نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة. ويجوز أن يكون هذا من قول الله تعالى؛ والله ولي المؤمنين ومولاهم. }ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم}أي من الملاذ. }ولكم فيها ما تدعون}تسألون وتتمنون. }نزلا}أي رزقا وضيافة من الله الغفور الرحيم. وقد تقدم في }آل عمران}وهو منصوب على المصدر أي أنزلناه نزلا. وقيل: على الحال. وقيل: هو جمع نازل، أي لكم ما تدعون نازلين، فيكون حالا من الضمير المرفوع في }تدعون}أو من المجرور في }لكم}. {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم، وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} قوله تعالى}ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا}هذا توبيخ للذين تواصوا باللغو في القرآن. والمعنى: أي كلام أحسن من القرآن، ومن أحسن قولا من الداعي إلى الله وطاعته وهو محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن سيرين والسدي وابن زيد والحسن: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الحسن إذا تلا هذه الآية يقول: هذا رسول الله، هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا والله أحب أهل الأرض إلى الله؛ أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه. وقالت عائشة رضي الله عنها وعكرمة وقيس بن أبي حازم ومجاهد: نزلت في المؤذنين. قال فضيل بن رفيدة: كنت مؤذنا لأصحاب عبدالله بن مسعود، فقال لي عاصم بن هبيرة: إذا أذنت فقلت: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، فقل وأنا من المسلمين؛ ثم قرأ هذه الآية؛ قال ابن العربي: الأول أصح؛ لأن الآية مكية والأذان مدني؛ وإنما يدخل فيها بالمعنى؛ لا أنه كان المقصود وقت القول، ويدخل فيها أبو بكر الصديق حين قال في النبي صلى الله عليه وسلم وقد خنقه الملعون قلت: وقول ثالث وهو أحسنها؛ قال الحسن: هذه الآية عامة في كل من دعا إلى الله. وكذا قال قيس بن أبي حازم قال: نزلت في كل مؤمن. قال: ومعنى }وعمل صالحا}الصلاة بين الأذان والإقامة. وقاله أبو أمامة؛ قال: صلي ركعتين بين الأذان والإقامة. وقال عكرمة}وعمل صالحا}صلى وصام. وقال الكلبي: أدى الفرائض. قلت: وهذا أحسنها مع اجتناب المحارم وكثرة المندوب. والله أعلم. قوله تعالى}وقال إنني من المسلمين}قال ابن العربي: وما تقدم يدل على الإسلام، لكن لما كان الدعاء بالقول والسيف يكون للاعتقاد ويكون للحجة، وكان العمل يكون للرياء والإخلاص، دل على أنه لا بد من التصريح بالاعتقاد لله في ذلك كله، وأن العمل لوجهه. لما قال الله تعالى}وقال إنني من المسلمين}ولم يقل له اشترط إن شاء الله، كان في ذلك رد على من يقول أنا مسلم إن شاء الله. قوله تعالى}ولا تستوي الحسنة ولا السيئة}قال الفراء}لا}صلة أي }ولا تستوي الحسنة والسيئة}وأنشد: أراد أبو بكر وعمر؛ أي لا يستوي ما أنت عليه من التوحيد، وما المشركون عليه من الشرك. قال ابن عباس: الحسنة لا إله إلا الله، والسيئة الشرك. وقيل: الحسنة الطاعة، والسيئة الشرك. وهو الأول بعينه. وقيل: الحسنة المداراة، والسيئة الغلظة. وقيل: الحسنة العفو، والسيئة الانتصار. وقال الضحاك: الحسنة العلم، والسيئة الفحش. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الحسنة حب آل الرسول، والسيئة بغضهم. }ادفع بالتي هي أحسن}نسخت بآية السيف، وبقي المستحب من ذلك: حسن العشرة والاحتمال والإغضاء. قال ابن عباس: أي ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك. وعنه أيضا: هو الرجل يسب الرجل فيقول الآخر إن كنت صادقا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبا فغفر الله لك. وكذلك يروى في الأثر: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال ذلك لرجل نال منه. وقال مجاهد}بالتي هي أحسن}يعني السلام إذا لقي من يعاديه؛ وقال عطاء. وقول ثالث ذكره القاضي أبو بكر بن العربي في الأحكام وهو المصافحة. وفي الأثر: قلت: قد روي عن مالك جواز المصافحة وعليها جماعة من العلماء. وقد مضى ذلك في }يوسف}وذكرنا هناك قوله تعالى}فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}أي قريب صديق. قال مقاتل: نزلت في أبي سفيان بن حرب، كان مؤذيا للنبي صلى الله عليه وسلم، فصار له وليا بعد أن كان عدوا بالمصاهرة التي وقعت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم فصار وليا في الإسلام حميما بالقرابة. وقيل: هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام، كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره الله تعالى بالصبر عليه والصفح عنه؛ ذكره الماوردي. والأول ذكره الثعلبي والقشيري وهو أظهر؛ لقوله تعالى}فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}. وقيل: كان هذا قبل الأمر بالقتال. قال ابن عباس: أمره الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعل الناس ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم. وروي أن رجلا شتم قنبرا مولى علي بن أبي طالب فناداه علي يا قنبر دع شاتمك، وآله عنه ترضي الرحمن وتسخط الشيطان، وتعاقب شاتمك، فما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه. وأنشدوا: وقال آخر: متاركة السفيه بلا جواب أشد على السفيه من السباب وقال محمود الوراق: فما الناس إلا واحد من ثلاثة شريف ومشرف ومثل مقاوم
فأما الذي فوقي فأعرف قدره واتبع فيه الحق والحق لازم
وأما الذي دوني فإن قال صنت عن إجابته عرضي وإن لام لائم
وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا تفضلت إن الفضل بالحلم حاكم {وما يلقاها}يعني هذه الفعلة الكريمة والخصلة الشريفة }إلا الذين صبروا}بكظم الغيظ واحتمال الأذى. وقيل: الكناية في }يلقاها}عن الجنة؛ أي ما يلقاها إلا الصابرون؛ والمعنى متقارب. }وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}أي نصيب وافر من الخير؛ قال ابن عباس. وقال قتادة ومجاهد: الحظ العظيم الجنة. قال الحسن: والله ما عظم حظ قط دون الجنة. }وإما ينزغنك من الشيطان نزغ}تقدم في آخر }الأعراف}. }فاستعذ بالله}من كيده وشره }إنه هو السميع}لاستعاذتك }العليم}بأفعالك وأقوالك. {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون، فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون، ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير} قوله تعالى}ومن آياته}علاماته الدالة على وحدانيته وقدرته }الليل والنهار والشمس والقمر}وقد مضى في غير موضع. }لا تسجدوا للشمس ولا للقمر}نهى عن السجود لهما؛ لأنهما وإن كانا خلقين فليس ذلك لفضيلة لهما في أنفسهما فيستحقان بها العبادة مع الله؛ لأن خالقهما هو الله ولو شاء لأعدمهما أو طمس نورهما. }واسجدوا لله الذي خلقهن}وصورهن وسخرهن؛ فالكناية ترجع إلى الشمس والقمر والليل والنهار. وقيل: للشمس والقمر خاصة؛ لأن الاثنين جمع. وقيل: الضمير عائد على معنى الآيات }إن كنتم إياه تعبدون}وإنما أنث على جمع التكثير ولم يجر على طريق التغليب للمذكر والمؤنث لأنه فيما لا يعقل. }فإن استكبروا}يعني الكفار عن السجود لله }فالذين عند ربك}من الملائكة }يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون}أي لا يملون عبادته. قال زهير: هذه الآية آية سجدة بلا خلاف؛ واختلفوا في موضع السجود منها. فقال مالك: موضعه }إن كنتم إياه تعبدون}؛ لأنه متصل بالأمر. وكان علي وابن مسعود وغيرهم يسجدون عند قوله}تعبدون}. وقال ابن وهب والشافعي: موضعه }وهم لا يسأمون}لأنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال. وبه قال أبو حنيفة. وكان ابن عباس يسجد عند قوله}يسأمون}. وقال ابن عمر: اسجدوا بالآخرة منهما. وكذلك يروى عن مسروق وأبي عبدالرحمن السلمي وإبراهيم النخعي وأبي صالح ويحيى بن وثاب وطلحة وزبيد الياميين والحسن وابن سيرين. وكان أبو وائل وقتادة وبكر بن عبدالله يسجدون عند قوله}يسأمون}. قال ابن العربي: والأمر قريب. ذكر ابن خويز منداد: أن هذه الآية تضمنت صلاة كسوف القمر والشمس؛ وذلك أن العرب كانت تقول: إن الشمس والقمر لا يكسفان إلا لموت عظيم، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف. قلت: صلاة الكسوف ثابتة في الصحاح البخاري ومسلم وغيرهما. واختلفوا في كيفيتها اختلافا كثيرا، لاختلاف الآثار، وحسبك ما في صحيح مسلم من ذلك، وهو العمدة في الباب. والله الموفق للصواب. قوله تعالى}ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة}الخطاب لكل عاقل أي }ومن آياته}الدالة على أنه يحيي الموتى }أنك ترى الأرض خاشعة}أي يابسة جدبة؛ هذا وصف الأرض بالخشوع؛ قال النابغة: والأرض الخاشعة؛ الغبراء التي تنبت. وبلدة خاشعة: أي مغبرة لا منزل بها. ومكان خاشع. }فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت}أي بالنبات؛ قال مجاهد. يقال: اهتز الإنسان أي تحرك؛ ومنه: {وربت}أي انتفخت وعلت قبل أن تنبت؛ قال مجاهد. أي تصعدت عن النبات بعد موتها. وعلى هذا التقدير يكون في الكلام تقديم وتأخير وتقديره: ربت واهتزت. والاهتزاز والربو قد يكونان قبل الخروج من الأرض؛ وقد يكونان بعد خروج النبات إلى وجه الأرض؛ فربوها ارتفاعها. ويقال للموضع المرتفع: ربوة ورابية؛ فالنبات يتحرك للبروز ثم يزداد في جسمه بالكبر طولا وعرضا. وقرأ أبو جعفر وخالد }وربأت}ومعناه عظمت؛ من الربيئة. وقيل}اهتزت}أي استبشرت بالمطر }وربت}أي انتفخت بالنبات. والأرض إذا انشقت بالنبات: وصفت بالضحك، فيجوز وصفها بالاستبشار أيضا. ويجوز أن يقال الربو والاهتزاز واحد؛ وهي حالة خروج النبات. وقد مضى هذا المعنى في }الحج}}إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير}تقدم في غير موضع.
|